الرئيسية العملي لماذا الحنين إلى الماضي هو شيء متجذر في كل الأشخاص؟

لماذا الحنين إلى الماضي هو شيء متجذر في كل الأشخاص؟

0

لعل الحنين إلى الماضي هو شيء نراه متجسدا أمامنا كلما ذكرنا شيئًا حدث بالماضي أو أتت سيرة مكان كنا نرتاده قديما أو موقف يستدعي الضحكات المذيلة بدفع الرأس إلى الوراء والاستغراق في استحضار هذه الأزمنة السابقة قبل أن نقول بمرح مغلف بالأسى “آه، كانت أيام”، فلماذا هذا الحنين إلى الماضي ولماذا هو متجذر في نفوس كل البشر بهذا الشكل؟ نبحث في أسباب هذه الحالة ونحاول تحليلها في السطور التالية:

رفض الواقع

من أسباب الحنين إلى الماضي هو شعورنا الدائم برفض الواقع وعدم قبوله بسبب المعاناة اليومية التي نعانيها فيه سواء في العمل أو في الدراسة أو في مشاكل المنزل أو غيرها من هذه الأمور ولعل الجملة التي ذكرناها في المقدمة التي تتبع أي استحضار ذكرى سابقة “آه.. كانت أيام” أكبر دليل على أننا نعترف بأن الأيام الماضية هي الأيام بينما الأيام الحالية ليست أياما بأي حال بل هي معاناة متواصلة متتابعة فيما نسميه الحياة ولعل هذه الحالة توّلد الشعور الدائم بأن السعادة كانت في الماضي فحسب بينما لا نشهد في الأيام الحالية سوى السوء والألم والملل والرتابة، لذلك فإننا نحن للماضي باستمرار وننظر له نظرة مليئة بالحزن والشجن.

إيماننا بأن كل شيء قديم هو أحلى

حالة الحنين إلى الماضي هذه نابعة من الشعور الدائم لدينا بأن كل شيء قديم هو أحلى، طعام الأم وأنت صغير وراجع من المدرسة بعد يوم دراسي منهك حيث تعده لك بمنتهى الحنان والرعاية وبين أنك مضطر الآن للأكل في المطاعم أو حتى الأكل في الشارع بسبب يومك المزدحم وافتقارك للدفء الأسري وحنان الأمومة، هذا مثال واحد فقط من العديد من الأمثلة التي تشرح لك كيف أننا ننظر لكل ما هو قديم على أنه أفضل بكثير وأن الحال كان أقل سوءا بكثير وأن الأسعار كانت زهيدة والسلع كانت أجود وحتى الموضة كانت أرقى والأخلاق كانت أبقى والنفوس كانت أنقى، كل هذه الأشياء كانت قديما بينما لا نحصد في زماننا الحالي سوى الرداءة وانعدام الذوق وانعدام الأخلاق والأسعار الباهظة مقارنة بالأجور المنخفضة وهكذا، هذه النظرة تسبب الحنين إلى الماضي وربما الحنين إلى الماضي أيضًا يضاعف هذه النظرة أكثر ويجعل تأثيرها علينا وعلى حياتنا أعلى.

الحنين إلى الماضي من أجل استدعاء الأيام الخوالي

لا ريب أنك عندما تشعر بحالة الحنين إلى الماضي هذه فإنك تنظر لواقعك الحالي المعاش وتنظر لكم المشاكل والمصائب فيه والأزمات الواجب عليك حلها والأمور الخارجة عن السيطرة سواء في العمل أو الدراسة أو المنزل أو العلاقة العاطفية أو العلاقات مع الأصدقاء أو توفير نفقات المعيشة أو أي من هذه الأمور وتنظر للماضي فتجد أنك كنت تعيش في أفضل حال، بلا التزامات أو مسئوليات أو اكتراث بمشاكل أسرية أو منزلية أو اهتمام بتوفير أي نفقات معيشة لأن دورك هو أن تنفق فحسب أما أن تعرف كيف يمكنك توفير ما عليك إنفاقه فهو ليس ما يشغل بالك على الإطلاق لذلك نحن نتفهم تماما أن مقارنتك بين الحاضر والماضي سيرجح كفة الماضي لا شك في ذلك والأسباب واقعية وحقيقية، ولكنها مرتبطة أكثر بنظرتك تجاه الحياة هل هي مراحل متباينة الالتزامات والمسئوليات ومختلفة في معطياتها بالتالي متغيرة في ظروفها، أم أنها خط واحد مستقيم من نفس الظروف والأحوال؟

رغبة الإنسان في أن يعيش في كل أوان ومكان

ربما من أكثر الأسباب لحالة الحنين إلى الماضي هذه هو عدم استيعاب الإنسان أنه لديه جسم واحد وحياة محدودة، الحنين إلى الماضي قد لا يكون تجاه الأزمنة التي عشناها فحسب بل تجاه الأزمنة التي لم نعاصرها والأمكنة التي لم نزرها والمواقف التي لم نتواجد فيها أبدا ولم نعشها مطلقا، فربما الشاب الذي عاش في الخليج في الألفية الثالثة يحن للتواجد في مصر السبعينات حيث الانطلاق والبهجة والألوان وفرحة الشباب كما يراها في الأفلام المصرية السبعينية وربما من أدرك الثورة المصرية عام 2011 يريد أن يعود لمظاهرات الطلبة في فرنسا عام 1968 والتي غيرت وجه العالم بأكمله وربما من يعيش في الوقت الحالي في مصر ورأى صورا أو مقاطع فيلمية لسوريا قبل الأحداث الدائرة حاليا يريد أن ينهل من عبق حلب وتدمر ودمشق أو كما يسمونها الشام بلغة أهل سوريا، لذلك رغبة الإنسان التواجد في كل مكان وزمان، ورغبة الإنسان أن يشهد كل المشاهد العظيمة التي مرت بها البشرية تجعله دائما يحن للماضي ويلعن حياته المحدودة التي تسجنه في فترة زمنية واحدة لا يتخطاها أو في مكان واحد ربما لا يرى غيره طوال حياته ولذلك يولع الناس دائما بآلة الزمن هذا الاختراع الوهمي العجيب لدرجة أنني رأيت العديد من الأسئلة توجه لعالم الفيزياء العبقري الشهير ستيف هوكنج حول آلة الزمن وهل يمكننا صنعها بالفعل، وقد أجاب إجابة بسيطة ومباشرة أننا نفتقر للعنصر الذي يمكننا بالفعل من صنع آلة الزمن ولكن في حالة صنعها أعتقد أن الواقع بأكمله سوف ينهار، ولن يكون الأمر ببساطة أفلام السينما.

نسيان الأوقات المؤلمة وبقاء البهجة في الذاكرة

دائما ما نفتح أعيننا على واقع مرير بينما نغلقه على ماضي بهيج وبديع، ومن شدة كآبة الواقع نتوهم أن كل ما كان في الماضي مبهج، لدرجة أنك يمكنك أن تتخيل أن أيام المرحلة الثانوية كانت جميلة ورائعة أجمل بكثير من الأيام الحالية، ولعلك تتذكر فقط الأصدقاء والصحبة والبقاء الدائم معهما وتتذكر ما كان يدور في بالك فقط حول هدف واحد وهو ما نفتقر إليه هذه الأيام حيث يتخبط كل واحد منا في تيهه بلا هدف أو غاية ولكن تنسى أنك كنت أيام المرحلة الثانوية موضوعا تحت ضغط بالغ ومصاب بالتوتر الدائم والمتواصل وأنك لا تفتأ تتحدث عن أي تنفيس فيتم إعادتك مرة أخرى لساقية التحصيل الدراسي كي تدور فيها بجنون، لا ريب أنك نسيت هذه الأيام ونسيت حالتك النفسية وقتها وأنك كنت موشكا على الإصابة بانهيار عصبي ذلك وأن الأوقات المؤلمة عادة ما تنسى وعادة ما تزول من الذاكرة بمجرد المرور منها بينما لا يمكننا أن ننسى أبدا الأوقات الجميلة وربما نتغافل عن كل الأيام السيئة ونتذكر فيها فقط اللحظات السعيدة خصوصًا عندما نستحضرها في مصاف مقارنة مع الواقع الكئيب المرير الذي لا نرى فيه أي شيء إيجابي ولكن نراه كله مفرمة تفرمنا كلنا وتلقي بنا في هوة الألم والمعاناة، لذلك لا نستغرب الحنين إلى الماضي والنظر إليه كأنه كان فردوسا لأننا نقارنه بالواقع الذي نراه عبارة عن جحيم مستعر أبدي لا ينطفئ.

الانزعاج من سرعة مرور الزمن

بالطبع أنت تستخدم موقع فيسبوك الذي ابتدع بدعة منذ حوالي عامين وهو أن يريك ماذا كتبت في مثل هذا اليوم على صفحتك الشخصية في الأعوام الماضية، من صادقت وما هي حالتك النفسية وقتها وما هي الصور التي التقطت لك ومن كتب على حائطك وماذا قال، فيأتيك موقفا كنت تحسبه الشهر الفائت فتفاجئ أنه مر عليه عام كامل، وأنك في مثل هذا العام كنت في هذا الموقف.. يااااه، هل مر علينا بسهولة عام كامل؟ لتحاول أن تمرر العام بين هذا اليوم وبين الحاضر لتجد أنك لم تشعر فيه بمرور عام كامل وربما هذا يرجع للروتين اليومي واستقرارك على نظام لا يتغير فبالتالي الأيام تشبه لبعضها ولا يوجد علامات مضيئة في رأسك لأحداث غير عادية فتكره نظامك اليومي هذا وتنزعج من سرعة مرور الزمن وتنظر لصورتك وأنت صغير فتشعر أنك تذكر تفاصيل هذا اليوم وتنتابك حالة إلى الماضي لأنك لم تعش بعد هذا اليوم كما كان يجب أن تعيش وأن عمرك كله قد أفنيته بالفعل في اللاشيء وتنزعج فعلا من سرعة مرور الزمن بهذا الشكل وتشعر أنك كان يجب أن تنتبه وتعيش بشكل آخر تأخذ حقك فيه من الحياة ولا تسمح لها أن تسرقك هكذا مرة أخرى وتحسب من عمرك أياما بلا أي أهمية أو أثر.

غياب الأشخاص وحنيننا للأماكن

من أكثر الأشياء التي تجعلنا نحن للماضي هو غياب الأشخاص وزوال الأماكن التي نشأنا وتربينا وترعرعنا فيها، ذلك الشعور المتداعي بالفقد وعدم القدرة على استعادة أي من الأيام الماضية ولو حتى عن طريق الذهاب للأماكن مرة أخرى والجلوس فيها أو لقاء الأشخاص مرة أخرى واسترجاع ذكرياتنا معهم، ذلك الشعور بالعجز عن الرجوع لأشياء لم تعد موجودة سوى في أذهاننا فحسب يجعل حالة الحنين إلى الماضي تصبح في أوج اتقادها بداخلنا وتوسع من الجراح الناشئة عن غياب هذه الأماكن وهؤلاء الأشخاص الذين تركوا بداخلنا آثارا لا تمحى بمرور الزمن وساهموا في تشكيل شخصيتنا وتكوين رؤيتنا للحياة من خلال المواقف التي شاركونا فيها ومن خلال الأحداث التي عاصرناها سويا ومن خلال الأماكن التي استطاعت بطبيعتها أن تخلق بداخلنا أشياء لم تكن لتوجد لولا أننا كنا متواجدين فيها في هذه الأوقات مع هؤلاء الأشخاص ومعنى غيابهم (الأشخاص والأماكن) يعني أن جزءا من شخصيتك وذاكرتك قد مُحي تماما كأنه لم يكن لذلك الأمر في هذه النقطة قد يكون صعبا فعلا.

إدراك التغيرات التي طرأت علينا

بعث لي أحد أقاربي منذ أيام فيديو تم تصويره من أكثر من 15 عاما كنت فيه طفلا صغيرا وقارنت بيني اليوم وبين هذا الطفل في الفيديو المتقد بالدهشة في عينيه وقارنت أيضًا بين الأشخاص في الفيديو والنسخ التي صاروا عليها اليوم ووجدت أن إدراك التغيرات التي طرأت علينا وعلى المحيطين بنا بفعل الأيام وعادة تكون للأسوأ مرعبة فعلا وتستدعي بالفعل حالة الحنين إلى الماضي هذه ليس من باب عدم رؤية أي إيجابيات في الواقع ولكن مما لا شك فيه أنه كلما مر علينا الزمن كلما عبث بأشكالنا وبأرواحنا وبوجداننا وكلما استطاع أن يسحق شيء ما فينا بالفعل، وهذا ما نستطيع إدراكه بالفعل من خلال رؤية صورة قديمة لنا أو مقطع فيديو لحفلة من حفلات أعياد ميلادنا لنعي تماما وبشكل واضح وفج وصريح ربما لم يكن ملحوظا من قبل أن التغيرات التي أضافها لنا الزمن.. تجعلنا نأسى لحالنا ونحن إلى الماضي.

خاتمة

الحنين إلى الماضي من الأمور التي نشعر بها جميعا ويمكنك أن تجرب أن تبدأ حديثًا عن الزمن الماضي مع أي شخص مهما كان سنه أو فئته العمرية حتى تدرك أنك قد فتحت فيضانا من الذكريات واسترسالا في الحديث حتى لأكثر الناس تحفظا، وأعتقد أن السبب في ذلك هو رغبتنا الواعية أو اللاواعية في إثبات أننا كنا نعيش هنا يوما.

Exit mobile version