الرئيسية الفلسفة لماذا الاهتمام بالأبراج أمر منتشر رغم عدم قيامها على أسس علمية؟

لماذا الاهتمام بالأبراج أمر منتشر رغم عدم قيامها على أسس علمية؟

0

لعل الاهتمام بالأبراج أمر لم تخفت حدته إلى الحد الذي لا يجعلنا نلتفت إليه فبعد الاهتمام المرضي بالأبراج خصوصًا في العقود الأخيرة من كل الجرائد والمجلات تحديدا لدرجة تخصيص ركن لحظك اليوم والحديث عن الأبراج ومدى توافق برجك عاطفيا مع الأبراج الأخرى وهل برجك مستعد أصلا لإنشاء علاقات أم لا والحديث عن صفات برجك ومقارنتها بصفات أبراج الآخرين بل الأمر وصل لاستضافة المختصين بمسألة الأبراج هذه في البرامج التلفزيونية والإذاعية ووصفهم بأنهم “علماء” للأبراج أو على أقل تقدير “خبراء أبراج” فأصبح هناك مهنة جديدة من الدجل المقنع باسم “خبير أبراج” وأصبح هناك المشاهير منهم يركض وراء تنبؤاتهم وتوقعاتهم كل من يدفعه انعدام التفكير العلمي والنظرة الموضوعي إلى الاهتمام بالأبراج فأصبح هناك نوعا من أنواع الدجل المقنّع والمقنن أيضًا حيث تفتح القنوات أبوابها لأمثال هؤلاء لكي يحتلوا أعلى المناصب ويفتون بمنتهى الثقة واليقين في أكثر أمور الحياة خصوصية وتعقيدا ولا يتركوا قضية إلا ويدلون بدلوهم فيها كأنهم حكماء بوذيين كهول وليسوا ممارسين للدجل الأنيق، فلماذا إذن رغم ارتكاز مسألة الأبراج هذه على أي أسس علمية أو استنادها لأي جانب موضوعي أو منهج فلسفي تشغل بال الكثيرين حتى الآن؟ الإجابة في السطور التالية:

الاهتمام بالأبراج هو اهتمام بفهم ذواتنا

الاهتمام بالأبراج نابع بالأساس من محاولاتنا المستميتة لفهم ذواتنا وبدلا من فهم ذواتنا بطرق علمية بحتة مثل البحث والتنقيب في أسس علم النفس والاجتماع القائمة على ركائز معملية وميدانية مختصة بإجراء التجارب والتحليل الميداني الواقعي وغير ذلك أو من خلال خوض التجارب والتواجد في مواقف تكشف لنا المناطق المظلمة وتنير لنا وجداننا نحاول أن نفهم ذواتنا عن طريق أوهام غير منطقية أصلا مثل علاقة الأجرام السماوية وموقعها في الفضاء في اليوم الذي ولدت فيه وبهذا يمكننا أن نقضي بأن كل الأشخاص الذين ولدوا في نفس اليوم الذي ولدت فيه عبارة عن نسخ متطابقة منك، لابد أنهم سيلاقون نفس مصيرك وسيختارون الخيارات التي ستختارها، وستكون صفاتكم متشابهة ولكن مع الأسف هذا ليس حقيقيا بل إننا نجد توائم أصلا بينهم فروقا جوهرية في الشخصية رغم أنهم ولدوا في نفس الدقيقة، لكن الاستسهال في محاولات فهم ذواتنا يدفعنا إلى الاهتمام بالأبراج وتصديق أن شيئا خارج الكوكب أصلا له علاقة بتكوين شخصيتك الحالية وما يحدث لك في حياتك.

تحليل الشخصيات

الاهتمام بالأبراج لأنه يقدم تحليلا مجملا للشخصيات بناء على تاريخ ميلادهم فحسب، وبما أننا يحلو لنا نحن البشر محاولة سبر أغوار الآخر، نريد أن نفهم كل من أمامنا ونقوم بعمل عملية تعرية كاملة له بكشف تاريخه بالكامل وكشف أسراره ومعرفة ما يخاف منه وما يحبه وما هي هواياته وما هي طباعه وغير ذلك وهذا بالطبع عائد للرغبة الهستيرية تحليل الشخصيات والتعرف على ذوات الناس لأن هذا عائد بالأساس إلى أننا نرى انعكاس شخصياتنا في مرايا الناس ولكن للأسف هذه المرايا مهشمة ومشوهة ولا تعكس الأبعاد الحقيقية على الإطلاق بل تكاد تكون مرايا مزيفة إن لم تكن كذلك بالفعل، ولا يمكن أن يبلغ بنا هوسنا لتحليل الشخصيات أن نلجأ لأساليب تقوم على استغلال هذه الشهوات في البشر واللعب بعواطفهم ومشاعرهم بهذا الشكل.

الرغبة في تقييم الناس بطريقة سريعة وبسيطة

من دوافع الاهتمام بالأبراج أيضًا هو هوسنا الدائم بالحكم على بعضنا وتقييم الشخصيات التي نقابلها وإطلاق صفات فضفاضة ومطلقة عن الآخرين والتغاضي عن الطبيعة المعقدة للشخصيات المركبة للبشر وتكوّنها من عدة عناصر متداخلة بشكل يصعب تعميم صفة على الآخر أو فصل عنصر عن الآخر والإمساك به وإطلاقه على الشخص لكن حتى المعاشرة والعيش مع الشخص وحضور مواقف معينة له ورؤيته وهو يتصرف فيها قد يخيل إليك أنك أصبحت تمتلك الحق الآن لإطلاق الأحكام عليه وتقييمه حسب مزاجك لكن الأبراج تقدم وسيلة أكثر سهولة وبساطة وهي أن تقول لك أن من ولد في شهر أكتوبر عصبي بينما من ولد في شهر ديسمبر انطوائي لكن من ولد في شهر مارس فهو حنون لكن من ولد في شهر يوليو فهو أناني وهكذا، لم تتعب نفسك أصلا وأنت لديك كتالوج البشر بأكملهم، تماما أشبّه علم الأبراج هذا كأنه يقدم كتالوج للبشر وطريقة التعامل معهم كأنهم كتلة واحدة أو خط إنتاج واحد من الروبوتات، وما عليك فقط سوى اتباع إرشادات التشغيل، أعتقد أنه عيب علينا ونحن نعيش في العصر الحديث أن نظل نعتقد في مثل هذه الخرافات.

شهوة الإيمان بالخطة المسبقة

الاهتمام بالأبراج والاعتقاد فيها يعني أن كل شيء يحدث لسبب وكل شيء يحدث لأن برجك ناري وبرج الآخر طيني وبرجك أنت هوائي بينما برجي مائي، الاهتمام بالأبراج يعني أنك ستنزل من بيتك وأنت تعرف بأن هناك خطة مسبقة موضوعة لما سيحدث لك اليوم ألفتها الأجرام السماوية وموقعها في الفضاء، هذه الأجرام التي خارج الكوكب أصلا ستؤثر أنت عليك وستغير مجرى حياتك ربما للأسوأ أو للأفضل سواء في عملك أو في بيتك أو في دراستك أو في علاقاتك العاطفية أو الأسرية أو غيرها, كما يوجد أيضًا من التبجح من يأتي ليقرر لك خطة مسبقة للعام بأكمله فيأتيك بتوقعات العام عليك وعلى العالم بأجمعه فيقول لك سيحدث كذا هذا العام وستترك وظيفتك وتلتحق بوظيفة أخرى وسيترشح فلان للانتخابات ولكن سيربح فلان وسيموت فلان وسيحل اللغز الفلاني أخيرا وإلخ إلخ كأن هؤلاء الأشخاص هم المديرين الفعليين للكوكب بأكمله والقادرين على تخطيط المسارات التي يسير فيها الناس ولكن ليس العيب عليهم أبدا ولكن العيب علينا نحن لأننا بكوننا نصبح جمهورا لهم من نصبح منهم نجوما.

الاهتمام بالأبراج لتحميل المسئولية لكيانات وهمية خارجية

من دوافع الاهتمام بالأبراج أيضًا تحميل مسئولية الأحداث التي تحدث لك لكيانات وهمية خارجية ولأن حظك اليوم كان متفائلا كان يومك عظيما ورائعا ولكن بسبب أن حظك اليوم كان مشؤوما ويحمل نصائح مبطنة بعدم النزول من المنزل أصلا حظيت بيوم سخيف ومحبط وبالتالي فمن يتحمل المسئولية بالطبع الأجرام السماوية التي تدور بمزاجها وتمشي بكيفها في الفضاء بلا ضابط أو رابط أو جاذبية تحجّم وبالتالي تؤثر على مصائر الآدميين المساكين دون أن تكترث لهم، بالطبع هذا الكلام لا ينطوي على طفل ولكننا نصدقه مرغمين بسبب عدم قدرتنا على مواجهة الحقيقة أو تحمل حتى الاعتراف بها أمام أنفسنا فحضرتك قد حظيت بيومٍ سيئ في العمل مثلا لأنك أهملت في عملك وتأخرت في تأدية مهامك أو قصّرت فيها وحتى إن لم تكن مقصرا فهذا بسبب مديرك العصبي المستبد والذي للأسف يستضعفك لأنك لا تأخذ موقفا منه أو بسبب زملائك الذين يستغلون طيبتك وأخلاقك من أجل تحقيق مصالح لهم، بالتالي خمن من يتحمل المسئولية وعلى ذلك قِس وقِس في باقي مناحي الحياة، يمكنك بالطبع أن تعترف أمام نفسك أنك لا تستطيع تحمل الحقيقة ولكن لا توهم نفسك بأمور ليس لها وجود أصلا ثم تصدقها بعد فترة وتتعامل معها كحقيقة.

عدم تفعيل التفكير العلمي والنظرة الموضوعية

ما نعاني منه جميعا في الشرق الأوسط هو عدم تفعيل التفكير العلمي في حياتنا اليومية والنظر للعلم والمناهج العلمية كنظرتنا إلى طلاسم لا نفقه فيها شيئا وبالتالي لا نحتاجها في حياتنا فنستعيض عنها بالخرافات والأساطير وبالتالي يمكننا أن نصدق بسهولة أن الأبراج أحد فروع علم الفلك وأنه حقيقي ومعترف به ويمكن أن يكتب أحدهم مقالا طويلا عريضًا كله كلام إنشاء ليس له أي مصادر أو مراجع عن أن الفلك علم معترف به وهناك معاهد وجامعات علمية ذات أسماء غريبة وهمية ليس لها وجود على الإطلاق ولم يسمع بها أي شخص من قبل افتتح فرعا في كليات العلوم هناك لتدريس علم الأبراج وبالطبع الناس ستصدق لأن الاهتمام بالأبراج لا ينتج في وسط ينظر للأمور بموضوعية ويحللها بشكل علمي، للأسف الشديد.

ملء الفراغ الوجداني

من الأشياء التي تدفع الناس أيضًا إلى الاهتمام بالأبراج هو ملء الفراغ الوجداني والنزوع نحو شغل الأمور الروحية والماورائية خصوصًا مع خلو الحياة من التفكير العلمي والمنهجية الموضوعية المجردة إلى تغذيتها بكافة أشكال الروحانيات حتى وإن أتت على شكل احتيال ودجل وشعوذة وليس لها أي أسس على الإطلاق وتلعب فقط بعواطف ومشاعر الناس ليس إلا.

الظمأ لاستشراف المستقبل

كلنا مولعون بالمستقبل، نود لو نعرف ماذا سيحدث فيه، نستعد لدفع كل أموالنا من أجل رؤية أنفسنا في المستقبل، ما الذي تحمله لنا نوائب الأقدار وما الذي تخبئه طيات الأزمنة وما الذي ينتظرنا من مفاجآت؟ كل هذه الأفكار الغارقة في المستقبل وفي محاولة فهمه والتنبؤ به تجعلنا على الدوام مستعدون لتصديق العرافين والدجالين أو أشباههم العصريين المسمون بخبراء الأبراج، لذلك الاهتمام بالأبراج نابع بشكل أساسي من الظمأ المتواصل لدى البشر للتنبؤ بالمستقبل ومحاولة استشرافه والتعرف على ملامحه خصوصًا وأن سابقاتنا مع الماضي كانت مفاجئة وغير متوقعة.

الإعجاب بفكرة المرشد الروحاني الخفي

أن يكون لديك مرشد روحاني خفي لا تعرف حتى اسمه يحاول أن يرشدك ويهديك للطريق القويم ويرسم لك مساراتك وما الذي تسير فيه والجميل في الموضوع أن هذا لا يعتمد على أساليب أو طرق علمية بل على طرق ماورائية وغير منهجية على الإطلاق، وبما إن سلك المنهج العلمي صعب وبارد ولا يوصلنا لفكرة الإرشاد الروحاني هذه بل يوصلنا لأسباب ونتائج ومعادلات جامدة بالتالي نحب أن نعتقد في مثل هذه الأمور الماورائية الغريبة.

هناك من يختصك أنت بتدبير أمورك

من الأشياء الغريبة أيضًا بل والمحيرة في مسألة الاهتمام بالأبراج هذه أن هناك من يصدق أن هناك من يختصك أنت من بين كل قراء الجريدة أو الموقع كأن الكلام موجه لك أنت بشكل مباشر كي يدبر لك أمورك ويختصك أنت بتوجيهك وإرشادك والحديث عن صفات برجك وصفات أبراج الآخرين، المسألة غير مفهومة على الإطلاق ولكن ربما لأن هناك الكثير من الناس يحبون رؤية أنفسهم أشخاص مهمين وهم محور الكون والعالم كله يتحرك وينشط ويقوم بالأشياء من أجله هو فحسب سواء بشكل إيجابي أو سلبي، بالتالي أصبح مفهوما نوعا ما.

إعطاء أسباب لكل شيء

كل شيء يحدث لسبب، هذا بالطبع حقيقي جدا ولكن كل الأسباب لها علاقة بموقع الأجرام السماوية في الفضاء، الاهتمام بالأبراج دافعه أنه يفسر كل شيء. ففلان عصبي لأنه لم يحدث له في طفولته ما يؤثر عليه، أصلا التجارب والمواقف لا تصنع شخصيات الإنسان ولكن لأنه مواليد برج السرطان، وفلان حبوب وهادئ لأنه مواليد برج الحمل.. وهكذا، لقد تركني حبيبي لأنه قوس وأنا دلو ونحن برجان غير متوافقان لا بسبب عدم تفاهم أو خيانة أو حب تملك أو أي من هذه الأشياء، للأسف الاهتمام بالأبراج قد ينبع من رغبة أيضًا بعدم تحمل المسئولية وعدم التفكير في الأمور بطريقة جادة أصلا.

خاتمة

الاهتمام بالأبراج أصبح من الأمور الغريبة حيث بعد كل هذه الاكتشافات العلمية ووسائل التقدم التكنولوجي وكشف العديد من الألغاز والأسرار في الكون لا زال هناك من يصدق بها ويعتقد فيها لكن على أي حال أرجع معظم هذه الأسباب لأمور نفسية نوعا ما.

Exit mobile version